ادعمنا

النظرية السياسية الرابعة - The Fourth Political Theory

تُعبّر النظرية السياسية عن الفكر السياسي الذي ينتهجه مؤسسوها، حيث يكون لها محددات تقوم على أساسها الدول وتستند إليها السلطة ضمن علاقاتها بالشعوب التي تحكمها وفي علاقاتها مع الدول الأخرى. فتعمد إلى دراسة الظواهر انطلاقاً من مصطلحات خاصة بها ومسببات معينة ومعتقدات وافتراضات تدعو لها، وكذلك مبادئ سياسية تساهم في عملية التطور السياسي. وقد شهد العالم تطوراً في هذا المجال من خلال مختلف النظريات كالليبرالية والفاشية والشيوعية، إلاّ أنه بعدما تفردت الولايات المتحدة الأمريكية بتزعم النظام العالمي طغت النظرية الليبرالية وأضحت هي معياراً لقياس العلاقات الدولية والمحلية. فعززت مفاهيم عديدة تقوم وتستند إليها كالفردية والحرية وحقوق الإنسان، وأضحت لغة الخطاب في المجتمع الدولي. ولكن لا يوجد اتفاق موحد حولها، فهناك بعض المفكرين الذين حاولوا نقد النظرية الليبرالية وصياغة نظريات أخرى. وإنّ النظرية السياسية الرابعة هي من أحد الطروحات الحديثة، فمن هو مؤسسها وما هي المرتكزات التي تقوم عليها؟

 

تعريف مصطلح النظرية السياسية الرابعة معجمياً

إنّ فهم تركيبة مصطلح النظرية السياسية الرابعة يستدعي تفكيك الكلمات المكونة له، لذا ستُعرض تعريفات لكل من "النظرية"، "النظرية السياسية"، "الرابعة". فبالاستناد إلى المعجم الكافي تُعرف النظرية على أنها "مؤنَّث النظريّ. -: القضيَّة تحتاج إلى برهان لإثبات صحَّتها. – في الفلسفة: طائِفةٌ من الآراء تنشر بها بعض الوقائع العلميَّة أو الفنيّة. ج: نظرياتٌ." وفيما يتعلق بتعريف النظرية السياسية معجمياً، تبعاً لأطلس العلوم السياسية؛ "هي فرع من فروع علوم السياسة، وتشكّل بالإضافة إلى مَبحثي النُظم السياسية والسياسة الدولية (وبالأحرى العلاقات الدولية) جزءاً ثابتاً من دراسة العلوم السياسية." كما أنه أُشير خلال الأطلس نفسه أنّ "كلمة 'تيوري بمعنى نظرية' هي مشتقة من تعبير 'ثيوريا' الإغريقي الذي يعني 'رؤية أو رأي'. وقد وردت في الأصل لتعني التأمل الفكري على النقيض من الممارسة التطبيقية (العمل). وفي الآونة الراهنة يُفهم من كلمة 'النظرية' قبل كل شيء نظام من الأقوال العلمية المترابطة مع بعضها والخالية من التناقض والمتمحورة حول حقيقة واقعة، بغرض التوضيح والتمكُّن من الاستيعاب." كما أنه الرابعة تبعاً للمعجم الكافي "الرابعُ: فا. -: عدد ترتيبيٌّ يقع بعد الثالث وقبل الخامس." ولفهم المقصود فعلاً بالنظرية السياسية الرابعة، لا بدَّ العودة إلى مؤسس هذا المفهوم وأبرز الباحثين الذين حاولوا الكتابة عن هذه النظرية وتوضيحها من بعده.

 

مفهوم النظرية السياسية الرابعة 

ارتبطت النظرية السياسية الرابعة بمؤسسها ألكسندر دوغين- Alexander Dugin الذي ينظر إليها على أنها "بديل لما بعد الليبرالية، ولكن ليس كتنظيم أيديولوجي كما الليبرالية. بدلاً من ذلك، فهي فكرة غير مادية تعارض المادية. إنها إمكانية للدخول في صراع مع الواقع، مثل ذلك الذي لم يظهر بعد لمهاجمة ما هو موجود بالفعل. في الوقت نفسه، لا يمكن أن تكون النظرية السياسية الرابعة استمراراً للنظرية السياسية الثانية أو الثالثة، لم تكن نهاية الفاشية، مثل نهاية الشيوعية، مجرد سوء فهم عرضي، بل كانت تعبيراً عن منطق تاريخي واضح إلى حد ما." لذا فإنّ دوغين يقصد بالنظرية السياسية الرابعة أنها نظرية بديلة للنظرية الأولى التي تتجلى بالليبرالية، والنظرية الثانية التي تتجلى بالشيوعية، والنظرية الثالثة التي تتمثل بالفاشية. إذ يعتبرها بمثابة حرب ضد ما بعد الحداثة والمجتمع ما بعد الصناعي، وكذلك ضد تحقق الفكر الليبرالي في الممارسة والعولمة وأسسها اللوجستية والتكنولوجية. كما أن يقول جون كودي مسبي- John Cody Mosbey حول مفهوم النظرية السياسية الرابعة: "بالنسبة لدوغين ، فإن مسألة الوجود أمر بالغ الأهمية للحاجة إلى النظرية السياسية الرابعة. يسمح التفسير الصحيح للكينونة (العدم والوجود) بفهم التقليد ورفض الليبرالية والحداثة وما بعد الحداثة الغربية. دوغين هو من أشد المعارضين لليبرالية. ما الذي يعارضه بالضبط؟ يقدم نظريته السياسية الرابعة كرد مباشر على العلل التي عززها اعتناق الغرب للديمقراطية الليبرالية." بالإضافة إلى ذلك، يقول محمد طيفوري حول النظرية السياسية الرابعة أنّ ألكسندر دوغين قدمها على "أنها نظرية الثورة وتصفية الاستعمار بالنسبة إلى المجتمع الروسي، فهي تدافع عن أصالة الحضارة الروسية وحقوق الإنسان، لكن ليس وفقاً للقيم الغربية التي قال، 'إنها ليست شمولية، وغير مقبولة في عديد من مناطق العالم، روسيا، الصين، العالم الإسلامي...'"

 

أصل تسمية النظرية السياسية الرابعة

يعتبر دوغين أنّ خلال القرون التي سبقت القرن العشرين، لعب الدين والسلالات والعقارات والطبقات والدول القومية أدواراً في تكوين المجتمعات وحياة الشعوب. وإنما في القرن العشرين قد لعبت الأيديولوجيا السياسية الدور الأبرز والمسيطر على خريطة وحضارات العالم، ولكن فيما بعد برزت أزمة أيديولوجيات تقاتلت فيه مختلف الأيديولوجيات أو النظريات لحد الموت. وقد عرض خلال كتابه "النظرية السياسية الرابعة" هذه الأيديولوجيات الرئيسية للقرن العشرين وهي:

1- ”الليبرالية (يمين ويسار) 

2- الشيوعية (بما في ذلك الماركسية والاشتراكية إلى جانب الاشتراكية الديمقراطية)

3- الفاشية (بما ذلك الاشتراكية القومية وأنواع أخرى من الطريق الثالث - النقابية الوطنية لفرانكو، و'عدالة' بيرون، ونظام سالازار، إلخ)."

فقد اعتبر أنّ الليبرالية هي النظرية السياسية الأولى والأقدم حيث برزت في القرن الثامن عشر وكان موضوعها الأساسي الفرد ويعتبرها الأنسب للحداثة وأنها استطاعت التغلب على خصومها. أما الشيوعية هي النظرية السياسية الثانية والتي جاءت كرد فعل على الليبرالية والمعارضة لها وكان موضوع الأساسي الطبقية. بينما الفاشية هي النظرية السياسية الثالثة التي جاءت كمنافس لفهمها الخاص لروح الحداثة وقد رغبوا المحافظين من خلال إلى قيادة مجتمعاتهم بالاتجاه المعاكس والميل نحو ثورتهم الخاصة وكان موضوعها الأساسي الدولة. إلاّ أنّ إن النظرية الثالثة لم تستطع أن تصمد طويلاً واختفت مع حسابات هتلر الخاطئة والانتحارية تبعاً لما يرى دوغين. وبعدما انتهت الفاشية، بقي التقاتل والتنافس بين كل من النظرية السياسية الأولى والنظرية السياسية الثانية حيث دارت حرب باردة بينهما خلال فترة الثنائية القطبية. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي انتهت النظرية السياسية الثانية وانتصرت النظرية الأولى بتفردها في النظام العالمي وما أتاحت لها العولمة من الوصول إلى كافة أنحاء العالم. إلاّ أنّ لدوغين طرح آخر حول هذا الانتصار حيث يعتبره النهاية، إذ يقول: "في هذه المرحلة، لم تعد الليبرالية هي النظرية السياسية الأولى وأصبحت الممارسة ما بعد السياسية هي السائدة. عند وصولنا إلى 'نهاية التاريخ' لفوكوياما حل الاقتصاد في شكل السوق الرأسمالية العالمية محل السياسة، وانحلت الدول والأمم في بوتقة انصهار العولمة المكوننة." وكذلك تطرق دوغين إلى سبب قناعته بإيجاد النظرية السياسية الرابعة وتسميتها حيث يقول: "وهكذا، تتزامن بداية القرن الحادي والعشرين مع نهاية الأيديولوجيات - أي الثلاث. ولقي كل منها نهاية مختلفة: فقد تم تدمير النظرية السياسية الثالثة في 'شبابها'، وتوفيت الثانية بسبب شيخوخة متداعية، وولدت الأولى من جديد كشيء آخر - مثل ما بعد الليبرالية و'مجتمع السوق العالمي'. على أي حال، لم يعد الشكل الذي اتخذته النظريات السياسية الثلاث في القرن العشرين مفيداً أو فعالاً أو ذا صلة. إنها تفتقر إلى القدرة على تفسير الواقع المعاصر أو مساعدتنا على فهم الأحداث الجارية، وهي غير قادرة على الاستجابة للتحديات العالمية الجديدة. تنبع الحاجة إلى النظرية السياسية الرابعة من هذا التقييم."

 

مبادئ النظرية السياسية الرابعة

بشكلٍ عام إنّ النظرية السياسية عند دوغين هي حرب ضد كل من؛ ما بعد الحداثة، المجتمع ما بعد الصناعي، تحقق الفكر الليبرالي في الممارسة، العولمة وأسسها التكنولوجية واللوجستية. فهي تقوم على مجموعة من المبادئ وأبرزها يتمثل فيما يلي:

- تصفير الاستعمار: يعتبر دوغين أنّ النظرية السياسية الرابعة ترتكز على فكرة تصفير الاستعمار. والمقصود بذلك أنّ النظريات الليبرالية والقومية والماركسية هي نظريات غربية نشأت في الغرب وفُرضت على العالم بأكمله. فيشير إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تمارس العدوان الثقافي ضد الثقافات الأخرى وأنها تصدرها بالقوة أو التأثير في العراق وأفغانستان وليبيا وغيرها... حيث يقول دوغين: "واقعاً أن الشعوب والثقافات الأخرى قبلت بهذه النظريات الثلاث يعني أنها باتت أسيرة لدى الغرب. والنظرية السياسية الرابعة هي نظرية الثورة تصفير الاستعمار بما يتعلق في المجتمع الروسي، تخليص المجتمع الروسي من النزعات الغربية."

- معاداة الليبرالية والرأسمالية: يرفض دوغين من خلال نظريته القيم الغربية ويعتبرها أداة تُستخدم من قِبل قوى واحدة لفرض هيمنتها على العالم. فهو ينظر إلى الليبرالية على أنها مفهوم سلبي، وأنّ القيم الغربية ليست مقبولة في العديد من الدول مثل الصين وإيران وروسيا وغيرها... فينتقدها وينتقد كل من يؤيدها مشيراً  إلى أنّ: "إن كان هناك من تروق له هذه القيم فليبقَ معها ويمكنُ للإنسان الذي يتمسك بهذه القيم أن يحزم أمتعته ويركب الطائرة ويُغادر. أمّا الشعوب الأخرى عليها أن تختار طريقاً آخر لكيفية تطورها."

- القيم الغربية ليست شمولية: ينظر دوغين إلى الإنسان انطلاقاً من وصفٍ جماعي له، فلا يؤيد النظرية الليبرالية حينما تركز على الفرد نفسه وحقوق الإنسان بمعزل عن محيطه فيقول أنها تقوم على: "تحرير الفردانية من الهوية الجماعية بشتّى أنواعها. على سبيل المثال اعتقد الليبراليون أنك إذا كنت حراً، يمكنك أن تختار أي موقف وأي حل، وأن تعتنق أي دين أو معتقد، وتفعل ما يحلو لك شرط أن لا تأذي الآخرين." وقد أشار أن مع الليبرالية الجديدة أصبحت تملي على الفرد ماذا يجب أن يكون وماذا يجب أن يفعل، وإن عارضها عندها تعتبره عدواً للمجتمع المفتوح، فيرى أنها تحولت لديكتاتورية. وكذلك يعتبر أنه لا يمكن الدفاع عن الفرد بمعزل عن البيئة الاجتماعية المحيطة به، فيشير إلى أن الغرب لديه قيم مميزة له ولكن ليست شمولية. فهي خاصة بالغرب ويجب ألا تكون إلزامية. فلكل حضارة مفاهيمها الخاصة التي تميزها اذ لديها منطلقات خاصة، فلا يمكن فرض أي قيم غربية لاعتبارها أنها شمولية، فهي ليست كذلك.

- أصالة الحضارة الروسية: يدافع دوغين من خلال نظريته عن أصالة الحضارة الروسية وفي الوقت عينه يعتبرها واحدة من احدى الحضارات، فيدافع عن الحضارات الأخرى كالإسلامية والصينية. فيرى أن لكل حضارة خصوصياتها ويمكن أن تطبق فيها نظرية سياسية رابعة خاصة بها. فبالنسبة لدوغين لا بدَّ العودة إلى الإرث الحضاري باعتباره بديلاً عن النزعة الغربية. فكل حضارة عليها أن تقوم بعملية التحديث والتطوير لقيمها والتحرك وفقاً لها دون فرض النموذج الغربي حيث لا يوجد طريق واحد للتطور. 

- التعددية القطبية: يرفض دوغين الأحادية القطبية ويعتبر أنه لا بدَّ أن يكون هناك العديد من الأقطاب والعديد من المراكز وكذلك العديد من مجموعات القيم. فيقول في هذا الصدد: "أعتقد بصدق أن النظرية السياسية الرابعة، البلشفية الوطنية والأوراسية يمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة لشعوبنا وبلداننا وحضاراتنا. الكلمة الأساسية هي 'التعددية القطبية' بكل معانيها - الجيوسياسية، والثقافية، والإكسيولوجية، والاقتصادية، وما إلى ذلك."

 

النظرية السياسية الرابعة وما بعد الحداثة

يعتبر ألكسندر دوغين أنّ النظرية السياسية الرابعة هي بمثابة معركة من أجل ما بعد الحداثة. فينظر إليها على أنها تتحدى الليبرالية كما فعلت الأيديولوجيات السابقة ولكن ضمن أطر وظروف جديدة. فخلال مرحلة الحداثة انتصرت الليبرالية على الفاشية والشيوعية ولكن الآن بدأت مرحلة ما بعد الحداثة. فيشير إلى ضرورة فهم عالم ما بعد الحداثة والوضع الجديد ومحاولة اختراق النظام الليبرالي. ولا يعتبر دوغين أن النظرية السياسية نسخة جديدة أو تقليد للأيديولوجيات السابقة وانما هي تستفيد من دراسة الماضي، وأهم شيء بالنسبة إليه النزعة المعادية لليبرالية. هذا وقد أضحى من الممكن الحديث عن القيم والتقاليد خلال هذه الفترة بعدما كان محظوراً في السابق، حيث خلال مرحلة الحداثة لقد تم اسقاط التقاليد التي يحدد أنها الدين والتسلسل الهرمي والأسرة، ولكن ما بعد الحداثة وخلال النظرية السياسية الرابعة يمكن لها أن تتجه لكل ما سبق من اجل استلهامها. فيعتبر أنّ كل ما هو قديم له قيمة ومصداقية بالنسبة للنظرية السياسية الرابعة.  كما يتحدث دوغين عن عودة اللاهوت والحديث عن الله ومختلف النقاشات التي تدور حوله. حيث يقول: "هذا يشير إلى عودة اللاهوت، ويصبح عنصراً أساسياً في النظرية السياسية الرابعة، عندما تعود، يمكن التعرف بسهولة على ما بعد الحداثة (العولمة وما بعد الليبرالية والمجتمع ما بعد الصناعي) على أنها 'مملكة المسيح الدجال' (أو نظيراتها في الديانات الأخرى – 'دجال' للمسلمين و 'إريف راف' لليهود و 'كالي يوجا' للهندوس، وما إلى ذلك). هذه ليست مجرد استعارة قادرة على تعبئة الجماهير، ولكنها حقيقة دينية؛ حقيقة صراع الفناء." 

 

روسيا ضمن النظرية السياسية الرابعة

يعتبر دوغين أنه لم يكن لروسيا مكانة خلال فترة الحداثة وما بعدها، إذ عليها أن تتبع مساراً مغايراً وأن يكون خاصاً بها لتكون دولة محافظة ترفض وتعارض الليبرالية وتحترم التقاليد الخاصة بها وتلك الخاصة بالشعوب الأخرى المتحالفة معها. وأشار أنه من خلال النظرية السياسية الرابعة يتم تحديد وتطوير مستقبل روسيا حيث يقول: "إن تحدي ما بعد الحداثة مهم للغاية: فهو متجذر في منطق نسيان الكينونة وفي ابتعاد البشرية عن جذورها الوجودية والروحية (اللاهوتية). من المستحيل الاستجابة لها بإبداع أو بدائل للعلاقات العامة. لذلك، يجب أن نشير إلى الأسس الفلسفية للتاريخ وأن نبذل جهداً ميتافيزيقياً من أجل حل المشكلات الحالية - الأزمة الاقتصادية العالمية، ومواجهة العالم أحادي القطب." وكذلك يعتقد أنّ النظرية السياسية الرابعة لا يمكن أن تقوم وتترجم على أرض الواقع إلاّ من خلال مشروع الأوراسية الجديدة. "إذ تقوم الأوراسيـة الـجـديـدة على نظام للقيم، وتجمع حضاري خـاص لروسيا إنها قصيدة سياسية عناصرها: الشعب الأرض، الأبدية. يقوم الشعب الأوراسي من طريق الحب (القومية الشهوانية)، مقابل أداتيه الدولة، وعبر حيوية لغته، ومن طريق تجسيد الإنسان الروسي كمطلق، من هنا يمكن التأكيد أن فلسفة دوغين حول الإنسان ( والإنسان الروسي) تجد لها جذورا في الثيولوجيا الأرثوذكسية، وترتكز على مفهوم الدازين (Dasein) كما وضعه هايدغر في مؤلفه الأساسي الكينونة والزمان الذي يتجاوز الوجود كدلالة للموجود نحو الوجود في حد ذاته، وعبر وعيه بوجوديته في العالم، تكون النظرية الرابعة وعياً بـالـوجـود الجغرافي والأوراسية معها، التي تعتبر الإنسان الروسي كائناً أنطولوجيا يأخذ كينونته من ذاته، وليس من المرجعية الخارجية (الغربية)."هذا وتنطلق النظرية السياسية الرابعة للتأكيد على هوية روسيا المتميزة مقابل الغرب، وتسليط الضوء على الموقع الجيوبوليتيكي لها ومميزاته وعلى ضرورة تقربها مع الشرق لمواجهة الغرب، وهذا ما بتطلب منها عقد تحالفات لتتمكن من اتخاذ مواقف في الساحة الدولية. كما أنّ العديد من الباحثين اعتبروا أنّ لأفكار دوغين تأثير على سياسات بوتين وتطورها بشكل بارز حيث يقول سامر إلياس حول ذلك: "يتضح مدى تطابقها مع المنطلقات النظرية لفكر وفلسفة المفكر القومي ألكسندر دوغين، الذي كان له، وما زال، التأثير الأكبر على الرئيس بوتين والنخب السياسية والعسكرية المحيطة به، إلى درجة أن كثيراً من المختصين بالشأن الروسي يعتقدون أن فهم السياسات البوتينية ومسارها". فيعتبر سامر أنّ تأثير أفكار دوغين لا تقتصر فقط على التوجهات الاستراتيجية العامة للدولة، بل على العديد من الملفات الساخنة كالملفين السوري والأوكراني.

 

انتقادات حول النظرية السياسية الرابعة 

وبذلك إنّ النظرية السياسية الرابعة كغيرها من النظريات لاقت انتقادات عديدة وحتى أنّ أفكار ألكسندر دوغين ككل أثارت جدلاً واسعاً حولها. فمنهم من يعتبر أنّ دوغين يرغب بقيام حرب عالمية حيث يقول تشارلز أبتون- Charles Upton لدوغين: أنت "تُعرّف الليبرالية على أنها الشر المطلق، وتدعي أن تدميرها لن يتطلب أقل من حرب عالمية ثالثة." حيث يعتبر أبتون أن الحرب العالمية الثالثة هي بمثابة نهاية للإنسانية ونهاية للحياة بأكملها. وهناك من يصف دوغين ونظريته بأن تشجع على الديكتاتورية والتطرف والسلطة المطلقة أن في جوهرها تحمل المتناقضات، حيث يقول سمير سعيفان ما يلي: "أبرز تناقضات دوغين أن النظرية السياسية الرابعة التي يُروّج لها هي محض قشرة خالية من المحتوى، وهو يعرّفها بدلالة العداء للغرب، وهذا كل شيء، وهذا تعريف سلبي، ويقرّ بأن تصوره مبنيّ على غريزة، لا على أيّ شيء آخر، ويدعو للعودة للوراء. وهو بذلك لم يقدّم أي جديد، سوى تجديد الدعوة للعداء للغرب ولكلّ ما يمت إليه بِصلة، الغرب ككل. وقد بدَت أفكاره تتوجّه بحسب فهم متعصّب لمصالح روسيا، وهذا ما يجعله أداة دعاية لسياسة بوتين وأفعاله، لا فيلسوفًا صاحب أفكار ونظريات."

خلاصة القول إنّ الفكر البشري بتطور مستمر، هذا ما يؤدي إلى بروز نظريات ونقد نظريات أخرى. فالنظرية السياسية الرابعة هي نظرية حديثة أتت بأفكار متميزة عن غيرها. فالبعض يعتبر أنها تُرجمت واقعياً من خلال التدخل الروسي في سوريا والقيام بالعمليات العسكرية في أوكرانيا. فهل أرادت روسيا عبر ما سبق أن تطبق النظرية السياسية الرابعة لتُعلن معاداة الغرب والرغبة في تعزيز نفوذها في النظام العالمي؟

 

 

 

 

المصادر والمراجع:

محمد خليل باشا، الكافي عربي حديث، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة الرابعة، بيروت، 1999.

أندرياس فيرإيكه، بيرند مايرهوفر، فرانتس كوهوت، أطلس العلوم السياسية، ترجمة سامي أبو يحي، المكتبة الشرقية، الطبعة الأولى، لبنان، 2012.

ألكسندر دوغين، الخلاص من الغرب الأوراسية الحضارات الأرضية مقابل الحضارات البحرية والاطلسية، ترجمة علي بدر، دار ألكا، الطبعة الأولى، العراق، 2021.

محمد طيفوري، مقال بعنوان: ألكسندر دوجين .. مفكر التحول الروسي من البلشفية إلى الأوراسية، منشور على موقع الإقتصادية بتاريخ 30-01-2022.

قناة الجزيرة، مقابلة: المفكر الروسي ألكسندر دوغين يتحدث عن النظرية السياسية الرابعة- الجزء الثاني، الدقيقة: 6:32، فيديو منشور على موقع YouTube  بتاريخ 23-11-2021. 

 قناة الميادين، مقابلة عبر برنامج من الداخل: بين الليبرالية الأولى والثانية، ما علاقة ترامب وبايدن والنظرية السياسية الرابعة؟، الدقيقة: 4:47، فيديو منشور على موقع YouTube  بتاريخ 11-07-2021.

جلة سماعين، النظرية السياسية الرابعة: روسيا والأفكار السياسية للقرن الحادي والعشرين، المستقبل العربي كتب وقراءات.

سامر إلياس، مقال بعنوان: دوغين وروسيا البوتينية.. الطيب والشرس والقبيح، منشور على موقع قناة سوريا بتاريخ: 28-11-2021.

سمير سعيفان، مقال بعنوان: بين دوغين وبوتين، منشور على موقع مركز حرمون بتاريخ: 31-01-2022.

John Cody Mosbey, working paper: Aleksandr Dugin: Philosophical Aspects of the Fourth Political Theory, published on ResearchGate publications,14-04-2017.

Charles Upton, A Challenge to Aleksandr Dugin, Scared Web.

Alexander Dugin, The Fourth Political Theory, Arktos, London, 2012.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia